يتساءل الكثير من متابعي الساحرة المستديرة عن مصدر كل تلك الاستثمارات والأموال التي تضخ في الأندية الرياضية، ويتحول التساؤل إلى ذهول حين نسمع عن صفقات انتقال اللاعبين وأجورهم الخيالية، وقيمة جوائز البطولات العالمية، ويضاف إلى ذلك كله، الاستغراب من حالة التسابق المحموم بين الدول لاستضافة بطولة كأس العالم ومثيلاتها من المنافسات الرياضية. أي عائد يرجى من كل هذه الاستثمارات الرياضية؟ وكيف تولد تلك العوائد؟ وهل نحن أمام منافسة رياضية أم منافسة اقتصادية وسياسية بين الدول، والأهم من كل هذا؛ من الرابح حقًا من لعبة كرة القدم؟ وهل هي فعلًا مجرد لعبة؟
مع بداية ظهور وانتشار لعبة كرة القدم في شكلها الممارس اليوم بإنجلترا في عام 1016، كان الأمر برمته لا يعدوا كونه مجرد منافسة رياضية تجمع حولها محبي اللعبة بغرض الفرجة والترفيه لا أكثر؛ حتى وإن ارتبط الأمر بجوائز تشجيعية أو مستحقات مالية فإنه يكون أمرًا ثانويًا وغير ذي أهمية بالغة، استمر الوضع على هذا الحال إلى غاية سنة 1863 أين أقحمت المقاربة الاقتصادية في كرة القدم حيث أصبح ينظر إليها كنشاط اقتصادي له سوق خاص وميزانية وتمويل وتنظيم إداري خاص بها.
ومع انتشار الرأسمالية وهيمنتها على الاقتصاد العالمي ارتبطت الرياضة بشكل عام وكرة القدم خصوصًا بالكثير من القيم الاستهلاكية للمجتمعات الحديثة لتصبح جزءً من الدورة الاقتصادية، إذ أنها تعد أرضًا خصبة للدعاية والإشهار وملاذَا للمعلنين نظرًا لشعبيتها وانتشارها وقدرتها على تسويق المنتجات وخلق أنماط استهلاكية جديدة، فلاعبوا كرة القدم في العصر الحديث أصبحوا يتمتعون بشكل جديد من أشكال القوة الناعمة التي من شأنها التأثير على الجمهور وجعله يتبنى أنماط حياة كتلك التي يروجها اللاعب عن نفسه وهو ما أحسنت شركات الدعاية والإعلان استغلاله لصالحها.
أي أن دور لاعب كرة القدم لم يعد يقتصر فقط على إبراز مهاراته الكروية داخل المستطيل الأخضر فقط، بل تعداه لإبراز قدراته التسويقية بغرض تحقيق أكبر قدر من العوائد للكيانات والمؤسسات التي يمثلها، وليس هذا هو مصدر الإيرادات الوحيد فحقوق البث التلفزيوني المباشر وأسعار تذاكر المباريات، زد عليه تحول بعض الأندية ولا عبيها إلى وجهة سياحية، كل هذا من شأنه تحقيق أرباح خيالية وبمعدلات تفوق معدلات التضخم العالمي، هذا ما يفسر سبب حصول لاعبي كرة القدم على تلك الأجور المرتفعة.
بعد هذا العرض الموجز للآلية التي يتم بها توليد الأرباح من الاستثمار في المجال الرياضي أصبح من الممكن إدراك طبيعة العلاقة بين الاقتصاد والرياضة وفهم التأثر المتبادل الذي يمكن أن يمارسه أحدهما على الآخر، فالرياضة أصبحت جزءً فاعلًا ومحفزًا في الاقتصاد، والاقتصاد بدوره أصبح يعتمد على الرياضة باعتبارها أداة لخلق القيمة المضافة وتوليد الأرباح.
وهو ما يفسر أيضًا تسابق الدول لاحتضان المنافسات الرياضية العالمية رغم أن الأمر يفرض عليها زيادة الإنفاق الحكومي الموجه لإنشاء وصيانة البنى التحتية وتوفير التجهيزات اللازمة لاستقبال الحدث الرياضي، فالقضية هنا قضية استثمار طويل الأجل بالنسبة للدول، إذ تشير الكثير من الدراسات بأن الدول المستضيفة تتوقع إيرادات تفوق حجم الانفاق وهو ما يدفعها لتقديم طلب تنظيم المنافسات الرياضية العالمية على أراضيها.
وعلى سبيل المثال فإن مونديال 2018 المقام بروسيا يُتوقع منه حسب دراسة أجرتها لجنة الفيفا المنظمة لبطولة كأس العالم تعزيز نمو الاقتصاد الروسي بنحو 3 مليارات دولار سنويا على مدى السنوات الخمس المقبلة، بالإضافة لكون المناسبة فرصة للشركات الروسية التي قامت بإنشاء البنية التحتية لإبراز كفاءتها تمهيدًا لاستحواذها على صفقات خارج أراضيها مستقبلًا.
وليست الدوافع والاعتبارات الاقتصادية وحدها هي ما يدفع الدول لتقديم طلب احتضان المنافسات الرياضية العالمية والسعي لتنظيمها فالاعتبارات السياسية حاضرة هي الأخرى فقد أضحت المنافسات الرياضية أداة لإثبات المكانة الإقليمية والدولية بالنسبة للبلد المستضيف، ووسيلة لزيادة الظهور على المسرح العالمي وتقديم البلد نفسه على أنه لاعب دولي له وزنه ومكانته في العلاقات الدولية، ويضاف إلى كل هذا، اعتبار الرياضة رأسمال سياسي يلجأ إليه القادة والزعماء وقت الحاجة، كل هذه المؤشرات والمعطيات تأخذ قضية تنظيم المنافسات الرياضية العالمية إلى ما هو أبعد من الطموح الاقتصادي أو الرياضي للدول، لتعكس شكلًا آخر من أشكال الطموح السياسي القائم على توظيف الرياضة خدمة للمصالح الاستراتيجية.
وبالعودة إلى المقاربة الاقتصادية للمنافسات الرياضية يتضح لنا أن معايير الربح والخسارة تتجاوز المعمول به والمتعارف عليه بأن الفريق أو المنتخب الذي استطاع احراز أكبر عدد من الأهداف أو النقاط هو الرابح وحده دون غيره، فالمنتخبات المتنافسة والجماهير المشجعة ما هي إلا واجهة تزين المشهد العام وتجلب له الأنظار.
كأس العالم وغيره من المنافسات الرياضية يصنع لنا في كل مرة سلسلة الرابحين والمستفيدين الحقيقيين على تفاوت أعلاهم قدرًا وأكثرهم مغنمًا هم عبارة عن كيانات ومؤسسات ودول دعمت المنافسات أو شاركت فيها بشكل غير مباشر وبعيدًا عن المستطيل الأخضر، وبغض النظر عن المنتخب الفائز، يبقى البلد المنظم وقيادته السياسية والشركات الممولة أو المستثمرة الرابح الأكبر دون منازع.
وفي الأخير؛ كرة القدم وإن كانت لعبة إلا أنها تجاوزت حدود التسمية ودلالة الصفة إلى ما هو أبعد من اللعب بكرة حتى وصل بها الحال إلى اللعب بالاقتصاد وبالسياسة وصولًا إلى اللعب بالعقول وبوعي الشعوب، وما أشبه مباريات لعبة كرة القدم بمباريات لعبة الأمم.
منقول عن الجزيرة