على الأرجح قد أخبرك العنوان بما نحن هنا من أجله، ليس صعبا بالطبع، لأنه عادة ما ينتهي مثل هذا العنوان بنتيجة واحدة قد تحبها أنت، أن يكون مجرد تقرير آخر يستدعي المزيد من النوستالجيا ويتباكى على عصر الكرة الجميلة الذي أفسدته مواقع التواصل، العصر الذي كان اللاعبون فيه حقيقيين والجمهور حقيقي والكرة برمتها حقيقية وليست مفتعلة، يتباكى على ذلك وفي الوقت نفسه ينتقد اللاعبين الذين يهتمون بالإعلانات والموضة وتسريحات الشعر أكثر مما يهتمون بكرة القدم، ويتهمهم بإفساد كرة القدم التي نعشقها. صحيح أنهم صاروا كذلك بالفعل، لكنهم ليسوا الوحيدين الذين أفسدوا كرة القدم لو اعتبرنا أن هذا يُسمى فسادا أصلا، لأنه ربما كنا نحن وأنت قد ساهمنا في هذا الفساد أو جئنا كنتيجة له.
كذلك لأنه على مدار تاريخ كرة القدم كان دائما هناك كرة جميلة في الماضي ليبكي عليها الآخرون، ولم تخلُ حقبة زمنية من التغييرات والتعديلات، بل عادة ما شهدت كل فترة ثورة كبرى تختلف كرة القدم بعدها عما كانت قبلها، ثورات كقانون التسلل أو دخول البث التلفزيوني إلى اللعبة والذي سمح لها بانتشار لم تشهده من قبل، وهو ما سمح لها بتجاوز حاجز المكان الذي قيّدها لعقود، وسمح بأن يكون هناك مَن يسكن القاهرة ويشجع اليونايتد مع أنه لم يطأ الأولد ترافورد يوما، حتى إنه طبقا لمؤسسة "kinder" فإن مانشستر يونايتد كان يمتلك نحو 659 مليون مشجع في عام 2012.(1)
والمؤكد أن الثورة الأخيرة التي لحقت بكرة القدم هي الثورة التي بدأت بدخول الإنترنت، وتحديدا مواقع التواصل الاجتماعي، إلى حيز الاستخدام، هذه هي اللحظة الفارقة التي تغيّرت معها كرة القدم للأبد، ومنذ قانون بوسمان فإن مواقع التواصل هي الثورة صاحبة الأثر الأكبر على كرة القدم، وامتد هذا التأثير بداية من تغيُّر رؤية الجمهور للعبة وطريقة تفاعله معها، وحتى أداء اللاعبين وقراراتهم داخل الملعب.
لماذا مواقع التواصل الاجتماعي إذن؟ نبدو هنا في حاجة إلى مقدمة أخرى طويلة لنحدّثك عن تحكم الأموال في كرة القدم وعن تحول الأندية إلى مجرد شركات هادفة للربح، وعن رؤية هذه الأندية للمشجعين وما يُمثِّلونه للنادي، هذه مقدمة مطلوبة لكنك تعرفها على أية حال، لكن كشركات ربحية فإن مشكلة الأندية في هذه الفترة كانت عدم مقدرتهم على الاستفادة من هذا الجمهور الضخم أو معاناتهم مما يُعرف بالـ "appropriability"، أي التناسب بين عدد المشجعين والربح الفعلي الموجود، وكان سؤال هذه الأندية الذي شغلهم طوال سنوات هو كيفية تحويل هذا المشجع الذي يسكن في القاهرة إلى مال؟
في عام 2014، وفي المؤتمر الدولي لكرة القدم (IFA)، كان غرين ميلر ممثل فيسبوك يقف ليخبر الجميع بأن موقعه الذي كان يمتلك نحو 1.3 بليون مستخدم في ذلك الوقت يمتلك من بينهم 500 مليون مشجع متعصب لكرة القدم، وأنه بات من السهل على كل فريق أن يتواصل مع مشجعيه من كل أنحاء العالم، وأنه بات من الممكن أن يتواصل النادي مع مشجعه الذي يسكن في الهند في الوقت ذاته الذي يتواصل فيه مع مشجعه في القاهرة، وأوصى ميلر الجميع بأن يسارعوا لاقتناص الفرصة وتوطيد علاقتهم مع جماهيرهم، وبدا للجميع بالفعل أن أمرا كهذا قد يحمل إجابة عن سؤالهم بشكل أو بآخر.(2)
لم تكن تلك هي بداية دخول الأندية إلى فيسبوك تحديدا، لكن ربما كانت بداية تعامل الأندية مع الأمر بجدية وتجاوز الفترات التي حاول الجميع فيها إنكار قوة هذه المواقع، أو الابتعاد عنها لأسباب تتعلق بالأمان والخوف من الاختراق كما صرّح ريتشارد أرنولد المدير الإداري لمانشستر يونايتد، وكذلك عدم تصوّرهم للتأثير المهول الذي تملكه هذه المواقع وتفوّقها على الأساليب التقليدية للتسويق، لكنهم رضخوا للواقع في النهاية، وبدأت صفحات هذه الأندية تنتشر عبر كل المنصات، وصار فيسبوك وتويتر وإنستغرام منبر كرة القدم الجديد.
لم يتوقع أحد بالطبع ما صارت إليه هذه المواقع في وقت قصير، انتشار رهيب لصفحات تلك الأندية، يصحبه نمو في مستخدمي المواقع من الأساس، وخلال سنوات كانت هذه الأندية تمتلك عدة حسابات بلغات مختلفة يعمل عليها جيش من المحررين والمصورين، وتهتم الأندية باختيار المسؤولين عن صفحاتها باعتبارها صارت شريكا أساسيا في نجاحاتهم الاقتصادية، وهدفهم الأساسي هو زيادة الروابط بين هذه الأندية والمشجعين، وإبقاء المشجعين في اتصال دائم مع النادي، عن طريق نشر أخبار الفريق الرسمية وكواليس التدريبات وإجراء مقابلات مع نجوم الفريق، وكل ذلك من أجل هدف واحد، هو الإجابة عن السؤال الذي حرّكهم للتفكير في هذا الأمر من البداية.
باتت كل الإجابات بعد ذلك واضحة، وكما تقول إيلي فرانكين خبيرة التسويق الرقمي فإن أشياء كتاريخ النادي وأساطيره وذكريات المشجعين معه جعلت توطيد العلاقة بين الطرفين أمرا بسيطا، واستثمار هذه الأرضية المشتركة يجعل من السهل على النادي أن يبدأ في استغلال هذه العلاقة العاطفية في إنشاء مساحة شاسعة متاحة للتسويق، ويصبح من الضروري كذلك أن يسعى للانتشار بشكل أكبر لتوسيع هذه المساحة وبالتالي زيادة أرباحه.(3)
وكإجابة أولى، فصفحات هذه الأندية تُستخدم كمنصة للتسويق لمنتجات النادي المُتمثِّلة في التذاكر والقمصان والهدايا أو حتى إكسسوارات السيارات والساعات، لأنه حين تخاطب 50 مليون شخص أو أكثر أغلبهم مشجعون للنادي ومهتمون بما تعلن عنه، ففرصة أن يبتاع الكثيرون هذه المنتجات تبدو كبيرة للغاية، كذلك تُحقِّق الأندية بعض المكاسب المباشرة نظير نشر بعض المنشورات وحسب كما يفعل موقع "dugout" على سبيل المثال.
لا تكتفي الأندية بذلك بالطبع، بل إن العنصر الأبرز الذي تستخدم فيه الأندية انتشارها على هذه المواقع يكون عندما يتم التفاوض مع الرعاة والمعلنين، صفحات هذه الأندية تُمثِّل إغراء كبيرا للمعلنين وتجعل الأندية في موقف قوة دائما عند التفاوض، وهذا مفهوم بالطبع باعتبار أن الإعلان حين يكون على صفحة النادي سيوجد أمام المستهلكين لفترة أطول باعتبار أن صفحات الأندية تُعَدُّ شريكا يوميا للمتابع ويراها أغلب الوقت، على عكس المباريات التي تستغرق ساعات قليلة لمرة أو مرتين فقط أسبوعيا.
وإذا علمت أن صفحة مانشستر يونايتد تتفوق على صفحات شركات تجارية أصلا مثل "نايكي" و"شيفروليه" فستُدرك السبب الذي يجعل هذه الشركات تسعى لرعاية اليونايتد، وطبقا لسيمون كوبر محرر "financial times" فإنه لم يكن غريبا أن يكون أول عقد رعاية يوقّعه مانشستر يونايتد بعد انضمامه لفيسبوك هو الأغلى في التاريخ حينها، والذي كان بينه وبين شيفروليه نظير ما يقارب 65 مليون يورو سنويا، ورغم ضخامة الرقم، فإن مدير التسويق في شركة جنرال موتورز آنذاك قد صرح أن هذه كانت فرصة لا تُعوَّض بالنسبة لهم، وأنهم سيجنون أضعاف ما دفعوه خلال سنوات قليلة فقط من الاقتران بمانشستر يونايتد.(4)(5)(6)
لم يكن ذلك بسبب صفحة فيسبوك وحدها بالطبع، لكن سهولة الوصول عبر تلك المواقع كان يُمثِّل عنصرا مهما في عمليات التفاوض المماثلة، وزادت تلك الأهمية مؤخرا بعد دخول إنستغرام وتويتر إلى المعادلة، وكذلك وصول التفاعل على هذه المواقع إلى درجة من التوسّع ليس لها مثيل، يكفي معرفة أن كأس العالم 2014 قد أنتج وحده عبر فيسبوك نحو مليار تفاعل، وأن فوز ألمانيا على البرازيل قد خلّف نحو 32 مليون تغريدة عبر تويتر، وهي الأرقام التي لم يشهدها أي حدث في التاريخ من قبل.(7)
وكإجابة أخرى، فإنه طبقا لأوليفر كايزر خبير العلامات التجارية ورئيس شركة "ledavi" المختصة بهذه الشؤون، فأندية كرة القدم بإمكانها أن تُضاعف أرباحها من مواقع التواصل عن طريق تلك المعلومات التي تملكها عن المشجعين، ووفقا لكايزر فهي تمتلك كميات هائلة من البيانات عن أشخاص في مختلف دول العالم، وبيانات تبدو أكثر تفصيلا في بعض الأحيان، بمعنى أنه لا يعرف فقط أن هناك مشجعا موجودا في القاهرة مثلا، بل إنه يعرف سنه واهتماماته ويمكنه كذلك أن يُحدِّد الوقت الذي يكون فيه هذا المشجع في حالة مزاجية مناسبة لتلقّي إعلان، يمكنك بالطبع أن تتخيّل كيف سيختلف شعورك في حالة تلقيت إعلانا عن اشتراك في خدمة للبث إذا كان فريقك خاسرا عنه في حالة كان فريقك فائزا، وبالمثل شراء الهدايا أو الذهاب في رحلة للترفيه، هذه القرارات يمكن بسهولة أن تتحدَّد طبقا لحالتك المزاجية التي يعلمها النادي بالضرورة. (8)
وطبقا لكايزر، فإن هذا سيُمكِّن الأندية من التحول إلى ما يُعرف بشركات الهوية، وهي الشركات التي تُقدِّم خدماتها مجانا في مقابل الحصول على أكبر قدر من المعلومات عن المستخدمين والاستفادة من بيعها للشركات المهتمة بعد ذلك بطبيعة الحال، وإذا كانت بعض الشركات تعاني في انتزاع مثل هذه البيانات، فإن أندية الكرة ووفقا لفيليب موريس -مسؤول الإيرادات في فريق يوفنتوس الإيطالي- لا تواجه أي مشكلة في الحصول عليها، ولا يمانع المشجعون إطلاقا من تسجيل بياناتهم لدى النادي في حالة طلب ذلك منهم، بل يكونون سعداء بهذا، وهو ما يمكنه أن يعود على الأندية بمليارات الدولارات إذا باعت هذه البيانات لمن يطلبها.
وإن كانت الأندية لم تُدرك أهمية هذه المواقع إلا مؤخرا فإن اللاعبين كانوا قد سبقوها إلى هناك، بل وصل بعضهم إلى أرقام لم تصلها هذه الأندية حتى الآن، كرستيانو احتفل قبل أيام بوصول حسابه في إنستغرام إلى 200 مليون متابع، وصفحته في فيسبوك تتجاوز 120 مليون معجب، رغم أنه قبل أعوام كان مدير شركة "polaris" المسؤولة عن حقوق صور النجم البرتغالي يسخر من كلام ممثلي فيسبوك حين أخبروه أن بإمكان رونالدو أن يصل إلى 10 ملايين متابع، لم يكن يُصدِّق حينها بالطبع وأخبرهم أن هذا يبدو مستحيلا، لأن تعداد البرتغال يصل بالكاد هذا الرقم، لكن الواقع فاق توقعات الجميع، ولم يمضِ الكثير حتى بات كريستيانو هو أكثر لاعبي العالم في أعداد المتابعين عبر مختلف المواقع.(9)
لم يكن من الصعب توقُّع ذلك إطلاقا، لأنه بفعل هذه المواقع تحوَّلت كرة القدم من مجرد منتج يُعرَض أسبوعيا أو مرتين في الأسبوع لعدة ساعات إلى منتج يستهلكه المشجعون على مدار الساعة، ولم تعد المباريات والأحداث التي تدور في الملعب قادرة على ملء هذه الأوقات، فكان البديل هو التحول لاستهلاك حياة اللاعبين الشخصية باعتبارها ستضمن ذلك التجدد والاستمرار الذي يطلبه جمهور هذه المواقع، ولم يعارض الكثير من اللاعبين ذلك ما دام قادرا على إضافة الملايين إلى حسابهم الشخصي.
مع الوقت، اكتسب اللاعبون أهمية دعائية كبرى، ولم يكن من الصعب مراكمة المعجبين ما دام هناك الكثير من المتابعين يبحثون عن أي شيء للاستهلاك في كل لحظة، وما دام هناك جديد متاح عبر حساباتهم يستهلكه هؤلاء، وبذلك زادت حساباتهم حتى صارت بالملايين، وهو ما بات مغريا لشركات الإعلانات لتستفيد منه هي الأخرى، ولم يمر الكثير من الوقت حتى امتلك أغلب اللاعبين عقودا خاصة مع تلك الشركات، بل وطلبا للمزيد من المكاسب قرّر بعضهم امتلاك علامته التجارية الخاصة، خطوط لإنتاج الملابس وشركات تجارية تحمل اسم اللاعب كعلامة تجارية معروفة، ويستغل اللاعب شهرته في التسويق لهذه العلامة عبر صفحاته، وإذا كان فيرغسون قد غضب من بيكهام في بداية الألفية لأنه اهتم بإعلان لإحدى الشركات على حساب التدريب، فإنه من الواضح أن جميع اللاعبين قد أصبحوا بيكهام هذه الأيام.
الغريب أن الأمر قد طال الكثيرين ولم يقف عند النجوم أو لاعبي الصف الأول فقط، لأن مزيدا من الانتشار أغرى اللاعبين بمزيد من المكاسب، خصوصا أن الأمر توسّع بشدة، وباتت الشركات تدفع أرقاما أكبر من المعتاد، وطبقا لمؤسسة "hooper hq" فإن متوسط عوائد منشور واحد لكرستيانو عبر إنستغرام في 2019 بلغ نحو 950 ألف دولار، ونيمار نحو 700 ألف دولار، ما يعني أن بإمكان اللاعبين أن يحصلوا على مبالغ تقارب ما يتقاضونه من أنديتهم مقابل عملهم الأساسي من الأصل، لعب كرة القدم.(10)
كرة القدم كوسيلة
من الواضح أننا قد نسينا أن نتحدث عن كرة القدم بالفعل، تحدثنا عن الأندية التي تحولت إلى شركات، واللاعبين الذين تحولوا إلى علامات تجارية، وكيف يسعى الجميع للأموال، لكن نسينا أن نتحدث عن المنتج الأساسي الذي يجمع هؤلاء، لعب كرة القدم ومدى تفوقهم فيه، لكن الحقيقة أن موقعها من المعادلة هو الذي تغير ولم تعد جودة المنتج التي تُقدَّم هي العنصر الوحيد الفارق، بل لم يعد استمرار ممارستها شرطا من الأصل لتحصيل هذه المكاسب.
أن تكون قيمة منشور إنستغرام واحد نحو 600 ألف دولار يعني أنه بات بإمكان أحدهم أن يحصل على مرتبه الأسبوعي نفسه بمجرد منشور دعائي على مواقع التواصل، تخيل أن مجرد صورة يلتقطها اللاعب وهو جالس على سريره أو في أحد الفنادق تقف في مواجهة المباريات المرهقة والساعات من التدريبات البدنية الشاقة ومواعيد النوم المحددة وقائمة الممنوعات التي تطول كل شيء، ما الذي قد يدفعه لتكبُّد عناء كرة القدم إذن؟
الغريب أن الأمر لا يتطلّب أكثر من أن تكون لاعبا جيدا لفترة، وأن يحبك الناس لأجل كونك لاعب كرة جيدا تَسبَّب في سعادتهم يوما، ثم بإمكانك أن تقضي عمرك في جني الأرباح من وراء ذلك، حتى لو لم تعد تُقدِّم الأداء نفسه أو تتسبّب في سعادة أحد، بل ما زال بإمكان الكثيرين ممن انخفض مستواهم أن يحافظوا على وجودهم في هذه المواقع، وبالتالي المحافظة على الأرباح المستمرة.
لاعبون انخفض مستواهم منذ زمن كغاريث بيل وأليكسس سانشيز ما زالوا محافظين على موقعهم، لكن الأدهى أن البعض يستفيد من هذه الأمور مع أنه لم يُقدِّم أي شيء في مسيرته، ولن نضرب الكثير من الأمثلة، لكن يكفي أن تعرف أن لينغارد يملك خطا لإنتاج الملابس باسمه، وأن ديفيد بيكهام الذي انقطعت صلته بكرة القدم من الأصل ما زال محافظا على موقعه كأحد أعلى لاعبي كرة القدم دخلا مع أن الرجل قد اعتزل اللعبة منذ مدة، ولم يعمل في أي مجال يخصها بعد ذلك.(11)
نحن هنا أمام ظاهرة بالفعل، انفصال رهيب بين المال والقيمة، أرباح اللاعب لم تعد مرتبطة بقيمة ما يُقدِّمه أو بكونه لاعبا جيدا أم لا، وقيمة العمل قد تلقّت ضربة قاتلة بذلك، آلاف الساعات من العمل ندفع ثمنها لأجل أن ينشر أحدهم صورته على الشاطئ، لا تتسبّب هذه الصورة في سعادتنا بالطبع، ولا نكتسب أي قيمة برؤيتها، لكن هذا هو الواقع الذي أحدثته مواقع التواصل، وواقع كرة القدم الجديد.
نحن أمام جيل جديد من لاعبي كرة القدم الذين لم تعد كرة القدم هي مصدر رزقهم الأول من الأصل، وهو ما دفع بهم إلى منطقة لم تعد ممارسة اللعبة فيها هي الغاية بقدر كونها وسيلة، وهو ما يُفسِّر عدم اكتراث بعض النجوم من عدم اللعب في أنديتهم باستمرار، لأنه ما دام عداد الأرباح في ازدياد فليس من المهم هل يلعب كرة القدم أم لا.
ولا تختلف الأندية في ذلك بالتأكيد، وطبقا لجون ديكسون خبير التسويق الرقمي، فإن النادي ليس في حاجة دائمة إلى أن يُقدِّم مستوى عاليا ليحافظ على تفوّقه في مواقع التواصل، يكفيه فقط فترة جيدة كل موسم ورصيدا من الأساطير والمباريات التاريخية، وبإمكانه استخدام ذلك لتحقيق المكاسب المرجوة والمحافظة على نمو المعجبين الدائم.(12)
حتى فترات انخفاض المستوى التي تغضب فيها الجماهير تتم إدارتها بحيث لا تؤثر على الأمر، وطبقا لديكسون فيمكن للنادي أن يستخدم المشجعين الأوفياء الذين يُفضِّلون مساندة النادي دائما في مواجهة الجماهير الغاضبة دون تدخل من حساب النادي، مع محاولته تخطي الأمر بتبني وجهات نظر إيجابية عن المستقبل أو اللجوء للماضي لأجل المحافظة على العلاقة مع جمهور النادي بعيدة عن مستوى الفريق وما يُقدِّمه.
الغريب أنه بالرغم من أن كرة القدم هي العنصر الأساسي الذي دار حوله هذا الأمر، وكان من المفترض ألّا يتعدّى أن يكون مجرد منبر مختلف لعرض المنتج، فإنه تخطى ذلك بكثير وكان التأثير الذي طال كرة القدم داخل الملعب أكبر مما تصور البعض، وطال الجميع، اللاعبين والإدارات والجمهور، سوق الاتتقالات باتت تحكمه اعتبارات أكبر من مستوى اللاعب، واللاعبون باتوا أكبر إحساسا بأنفسهم في مقابل الأندية، كما تسبّب انتقال المركزية نحو الجماهير أكثر مما مضى في سعي إدارات الأندية لإرضائهم، كما تسبّبت الآراء التي تصل إلى اللاعبين بسهولة، سواء الإيجابية أو السلبية، في التأثير على أدائهم داخل الملعب، والأهم أنها غيّرت جمهور كرة القدم وطريقة تفاعله مع اللعبة إلى حدٍّ كبير، وأنتجت ما يمكن تسميته بـ "عصر المشجعين الجدد"، لكن ربما يحتاج تفصيل هذا إلى تقرير آخر طويل نبكي فيه بالفعل على زمن المشجعين الحقيقيين الذين لم نبكِ عليهم اليوم.